كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فائدة:
قال أهل المعاني: في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة: نادت ونبهت وسمت وأمرت ونصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وأعذرت، ووجهه: نادت يا، نبهت: ها، سمت: النمل، أمرت: ادخلوا، نصت: مساكنكم، حذرت: لا يحطمنكم، خصت: سليمان، عمت: وجنوده، أشارت: وهم، أعذرت: لا يشعرون، ولما كان هذا أمر معجبًا لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني تسبب عنه قوله: {فتبسم ضاحكًا من قولها} أي: لما أوتيته من الفصاحة والبيان وسرورًا بما وصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذي أحدًا وهم يعلمون، وبما آتاه الله من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه تنبيه: ضاحكًا: حال مؤكدة لأنها مفهومة من تبسم، وقيل: هي حال مقدّرة فإنّ التبسم ابتداء الضحك، وقيل: التبسم قد يكون للغضب، ومنه تبسم تبسم الغضبان، فضاحكًا: مبينًا له، قال عنترة:
لما رآني قد قصدت أريده ** أبدى نواجذه لغير تبسم

وقال الزجاج: أكثر ضحك الأنبياء التبسم، وقوله: {ضاحكًا} أي: متبسمًا، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا قط ضاحكًا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم، وعن عبد الله بن الحارث بن جبير قال: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان أوّله التبسم، وآخره الضحك، ثم حمد الله تعالى على هذه النعمة وسأل ربه توفيق شكره لما تذكر ما أولاه ربه سبحانه وتعالى بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك {وقال رب} أي: أيها المحسن إليّ {أوزعني} أي: ألهمني {أن أشكر نعمتك} وقيل معناه لغة: اجعلني أزع شكر نعمتك أي: أكفه وأمنعه حتى لا يفلت مني فلا أزال شاكرًا، وأزع بفتح الزاي أصله: أوزع فحذفت واوه كما في أدع، ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به حققه بقوله: {التي أنعمت عليّ} وأفهم قوله: {وعلى والديّ} أن أمّه كانت أيضًا تعرف منطق الطير وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين خصوصًا النعمة الراجعة إلى الدين فإنه إذا كان تقيًا نفعهما بدعائه وشفاعته ودعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له وقالوا رضي الله عنك وعن والديك.
تنبيه:
الشكر لغة: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر أو غيره سواء كان ذكرًا باللسان أم اعتقادًا أو محبة بالجنان أم عملًا وخدمة بالأركان، كما قال القائل:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا

وعرفًا: صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله، وهذا لمن حفته العناية الربانية نسأل الله الكريم الفتاح أن يحفنا ومن يلوذ بنا بعنايته.
روي عن داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة أخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود إذا علمت أنّ ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني. والشكر ثلاثة أشياء: الأول: معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة، فرب جاهل تحسن إليه وتنعم عليه وهو لا يدري، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر، الثاني: قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة، فإنّ ذلك شاهد بقبولها حقيقة، الثالث: الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه، فإنّ اليد العليا خير من اليد السفلى.
ولما علم من كلامه أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك العمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسنًا وهو ليس كذلك قال عليه السلام: مشيرًا إلى هذا المعنى {وأن أعمل صالحًا} أي: في نفس الأمر، وقيده بقوله: {ترضاه} لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل:
إذا كان المحب قليل حظ ** فما حسناته إلا ذنوب

وقوله: {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} يدل على أنّ دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق العبد، والمعنى: أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين، فإن قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين والأولياء فما السبب في أنّ الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين وقد تمنى يوسف عليه السلام بقوله: {فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين}.
وقال إبراهيم: {هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين}.
أجيب: بأنّ الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يفعل معصية ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية، ثم إنّ سليمان عليه السلام لما وصل إلى المنزل الذي قصده تفقد أحوال جنوده كما تقتضيه العناية بأمور الملك.
{وتفقد الطير} أي: طلبها وبحث عنها، والتفقد طلب ما فقد، ومعنى الآية طلب ما فقد من الطير {فقال ما لي لا أرى الهدهد} أي: أهو حاضر {أم كان من الغائبين} أم منقطعة، كأنه لما لم يره ظنّ أنه حاضر ولم يره لساتر أو غيره، فقال مالي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، وهذا يدل على أنه تفقد جماعة من الجند وتحقق غيبتهم وشك في غيبته.
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء: أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب من الجنّ والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ عسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر في كل يوم مدة مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة وقال لمن حضر من أشراف قومه أنّ هذا المكان يخرج منه نبيّ عربي صفته كذا وكذا يعطى النصر على جميع ما يأواه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم، قالوا فبأي: دين يدين يا نبيّ الله؟ قال بدين الحنيفية: فطوبى لمن أدركه وآمن به، قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبيّ الله؟ قال: مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج منها صباحًا وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضًا حسناء تزهو خضرتها فأحبّ النزول ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد: إنّ سليمان قد اشتغل بالنزول فأرتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها فنظر يمينًا وشمالًا فرأى بستانًا لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير، فقال عنفير هدهد اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وإلى أين تريد؟ قال أقبلت من الشأم مع صاحبي سليمان بن داود فقال ومن سليمان؟ قال ملك الإنس والجنّ والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت؟ قال أنا من هذه البلاد، قال ومن ملكها؟ قال امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبكم ملكًا عظيمًا ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت اليمن كله وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها، قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وغاب إلى وقت العصر، وكان نزول سليمان على غير ماء، قال ابن عباس: وكان الهدهد دليل سليمان على الماء، وكان يعرف الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة ويعرف بعده وقربه فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق: انظر ما تقول: إن الصبيّ منا يصنع الفخ ويحثوا عليه التراب فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه؟ فقال له ابن عباس ويحك إن القدر إذا جاء حال بين البصر، وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر، قال القائل:
هي المقادير فدعني والقدر ** إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر

إذا أراد الله أمرًا بامرئ ** وكان ذا عقل وسمع وبصر

يعبر الجهل فيعمى قلبه ** وسمعه وعقله ثم البصر

حتى إذا أنفذ فيه حكمه ** ردّ عليه عقله ليعتبر

لا تقل لما جرى كيف جرى ** كل شيء بقضاء وقدر

فلما دخل على سليمان وقت الصلاة سأل الإنس والجنّ والشياطين عن الماء فلم يعلموه، فتفقد الهدهد فلم يجده فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته مكانًا، فغضب سليمان عند ذلك وقال.
{لأعذبنه} أي: بسبب غيبته فيما لم آذن فيه {عذابًا شديدًا} أي: مع بقاء روحه ردعًا لأمثاله {أو لأذبحنه} أي: بقطع حلقومه أي: تأديبًا لغيره {أو ليأتيني بسلطان مبين} أي: بحجة واضحة.
واختلفوا في تعذيبه الذي أوعده به على أقوال: قال البغوي: أظهرها أنّ عذابه أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطًا لا يمتنع من النمل والذباب ولا من هوام الأرض انتهى، وقيل: تعذيبه أن يؤذيه بما لا يحتمله ليعتبر به أبناء جنسه، وقيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه، وقيل: أن يطلى بالقطران ويشمس، وقيل: أن يلقى للنمل تأكله، وقيل: إيداعه القفص، وقيل: التفريق بينه وبين ألفه، وقيل: لألزمنه صحبة الأضداد.
قال الزمخشريّ: وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد، وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه، ثم دعا العقاب سيد الطير فقال له: عليّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فالتفت يمينًا وشمالًا فإذا بالهدهد مقبلًا من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أنّ العقاب يقصده بسوء، فناشده فقال بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ إلا ما رحمتني ولم تتعرّض لي بسوء، فولى عنه العقاب وقال له ويلك ثكلتك أمّك إنّ نبيّ الله قد حلف أن يعذبك أو ليذبحنك، قال فما استثنى، قال: بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال، فقال الهدهد وما استثنى نبي الله عليه السلام؟ قالوا: بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، قال فنجوت إذًا، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان، وكان قاعدًا على كرسيه، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبيّ الله.
{فمكث} أي: الهدهد، وقوله تعالى: {غير بعيد} صفة للمصدر، أي: مكثًا غير بعيد، فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعًا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، وقال له أين كنت؟ لأعذبنك عذابًا شديدًا فقال له الهدهد: يا نبيّ الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال ما الذي أبطأك عني {فقال أحطت} أي: علمًا {بما لم تحط به} أي: أنت مع اتساع علمك وامتداد ملكك، ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه، وتنبيهًا له على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علمًا بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ويكون لطفًا في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء والإحاطة بالشيء علمًا أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم، قالوا:
وفيه دليل على بطلان قول الروافضة أنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه، وقيل: الضمير في مكث لسليمان، وقيل: غير بعيد صفة للزمان أي: زمانًا غير بعيد، وقرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها، وهما لغتان إلا أنّ الفتح أشهر، {وجئتك} أي: الآن {من سبأ بنبأ} أي: خبر عظيم {يقين} أي: محقق، وقرأ أبو عمرو والبزيّ سبأ بفتح الهمزة من غير تنوين، جعلاه اسمًا للقبيلة أو البقعة فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، والباقون بالجر والتنوين جعلوه اسمًا للحيّ أو المكان، قال البغوي: وجاء في الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: «رجلًا كان له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة» فقال سليمان وما ذاك قال: {إني وجدت امرأة تملكهم} وهي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكًا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكًا هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤًا لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه بامرأة من الجنّ يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس ولم يكن له ولد غيرها.